ابن البناء المراكشي: عبقرية رياضية مغربية أضاءت عصر المرينيين

شهد العصر المريني في المغرب ازدهارًا ملموسًا في مجالات العلم والأدب، وكان من أبرز وجوه هذا العصر العلامة أبو العباس أحمد بن محمد بن البناء المراكشي. وُلد ابن البناء في مراكش يوم 29 ديسمبر 1256م، وأصبح من أبرز العلماء في الرياضيات والعلوم الطبيعية، محققًا شهرة واسعة في مجالات الحساب والهندسة والفيزياء، ليترك أثرًا علميًا خالدًا تجاوز حدود المغرب ووصل إلى الشرق والغرب.
مسيرة علمية متميزة
بدأ ابن البناء مسيرته العلمية بالطريقة التقليدية المغربية، حيث حفظ القرآن وتعلم العلوم الأساسية كالنحو والصرف والفقه، لكنه برع في الرياضيات بشكل خاص. كرس جزءًا كبيرًا من حياته لدراسة الحساب والجبر والهندسة، وألف العديد من الكتب في هذه المجالات، مما أكسبه لقب “العددي” نسبة إلى الحساب.
لم يقتصر ابن البناء على الرياضيات فقط، بل طرق أبواب علوم أخرى كالتوقيت والفلك والطب. وقد درس على يد كبار العلماء في مراكش وفاس، مثل أبو إسحاق الصنهاجي، والقاضي يوسف التجيبي. وبفضل عبقريته واهتمامه بالعلوم، حصل على تقدير واسع من أمراء المرينيين وعلمائهم، مما جعله يحظى بمكانة خاصة في دولته.
إسهامات ابن البناء
يعتبر ابن البناء من الرواد في مجال الرياضيات، خاصة في الجبر والحساب. أحد أبرز أعماله هو “تلخيص أعمال الحساب”، الذي نُقل إلى عدة لغات أوروبية، واستُخدم كمصدر تعليمي في العديد من الجامعات والمدارس حول العالم. وقد أثار كتابه اهتمام العلماء والمستشرقين، حيث تم ترجمته إلى الإيطالية والفرنسية في القرن التاسع عشر.
ومن أبرز تلامذته الذين تركوا أثرًا كبيرًا على الساحة العلمية، نجد العلامة القلصادي الذي اشتهر بابتكاره لطريقة البدء في الجمع والطرح من اليمين، وعلامة الجذر التربيعي التي استُخدمت لاحقًا في الرياضيات الحديثة.
تقدير العلماء لابن البناء
نال ابن البناء تقديرًا كبيرًا من علماء عصره ومن بعدهم، حيث وصفه ابن خلدون في مقدمته بأنه صاحب “تلخيص ضابط لأعمال الحساب”، كما أشاد به العلماء الشرقيون والغربيون. وقد عاصر ابن البناء العديد من الأحداث التاريخية المهمة في المغرب، وكان شاهداً على ازدهار الحضارة المرينية التي ساهم في إثرائها.
ورغم هذا التقدير، وقع بعض الباحثين في أخطاء تتعلق بمكان ميلاده، حيث أشار الأستاذ قدري حافظ طوقان إلى أنه وُلد في غرناطة، وهو خطأ صححه الباحثون لاحقًا، مؤكدين أن ابن البناء وُلد وتوفي في مراكش.
إرث خالد
توفي ابن البناء في أغسطس 1321م عن عمر يناهز 65 عامًا، لكنه ترك إرثًا علميًا غزيرًا أثّر على العديد من العلماء من بعده. استمر تأثير أعماله في الرياضيات والهندسة والجبر لعدة قرون، ولا تزال كتبه محل دراسة وبحث حتى يومنا هذا.
ابن البناء المراكشي هو مثال بارز على عبقرية العلماء المغاربة، ودوره في إثراء العلوم يُعد مصدر فخر ليس فقط للمغرب، بل للعالم الإسلامي بأسره.